الهبّة العالمية دعماً لفلسطين: الأبعاد الجديدة

عبد المجيد سويلم
الهبّة العالمية دعماً لفلسطين: الأبعاد الجديدة
ما زالت الدولة العبرية، والولايات المتحدة الأميركية، وحتى الرسميّات «الغربية»، وحتى الرسميّات العربية والإقليمية، كلّها، ومن دون استثناء، تنظر إلى هبّة شعوب الأرض دعماً لفلسطين نظرةً قاصرة، وقصيرة النظر، وما زالت جميعها ترى فيها حالة تضامن مؤقّتة ما تلبث أن تخبو عند توقّف الحرب العدوانية، إن توقّفت، أو أنها سوف تتآكل إذا ما تمكّنت دولة الاحتلال، ومن خلفها أميركا، من تحقيق اختراق ميداني حاسم في قطاع غزّة.
وبعضها يراهن أنّ اختراقاً من هذا القبيل لن يؤدّي فقط إلى مثل هذه النتيجة، وإنّما يراهن بعضها أو كلّها بأن يمتدّ هذا الاختراق ليشمل الساحات الساخنة الأخرى، وصولاً إلى إحكام سيطرة دولة الاحتلال على كامل «المجال الحيوي» الخاص بالتحالف الأميركي الصهيوني، بما في ذلك إعادة هندسة الإقليم، جغرافياً، وكذلك ديموغرافياً، وتوزيع، وإعادة توزيع ثروات ومقدّرات الإقليم على مجمّعات الاستثمار والنهب الأميركية المنصهرة والمُدمَجة بالرأسمال الصهيوني، واقتسام وإعادة اقتسام السيطرة عليها، «الثروات والمقدّرات»، بعد تحديد حصص المقاطعات السياسية الجديدة، وبشروط خضوع جديدة.
هذه التقديرات ليست عبثية أبداً على الإطلاق، وحتى تكون الصورة أوضح ممّا هي عليه حتى الآن تعالوا نتخيّل لو أنّ العكس هو الذي سيتم، أو أنّ الاختراق الذي يراهن عليه بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الإبادة والتوحُّش، ويستميت للوصول إليه، وتدعمه فيه أميركا بكل طاقاتها، وجوارح إدارتها، ورئيسها على وجه الخصوص قد فشل، واختلطت كل الأوراق، وتعثّرت القيادة الإسرائيلية في هذه الحرب الدموية، وتوقّفت في منتصف الطريق، وخرج الفريق الأميركي الإسرائيلي من حرب الإبادة الإجرامية بأنصاف أهداف، وأنصاف انتصارات، أو أنصاف هزائم!
إن مجرّد الوصول إلى نتائج كهذه هو بمثابة زلزال مدمّر لكامل المخطّط، وسيضرب الإستراتيجية الأميركية في الإقليم، بما في ذلك دور ومكانة دولة الاحتلال، وأيضاً، واقع النظام الإقليمي، والنظام العربي في القلب منه في مقتل مؤكّد لا تحوم حوله أيّ شكوك.
غزّة في الحقيقة كانت فاتحة الزلزال الذي ضرب كل الإقليم، وامتدّت ارتداداته إلى العالم كلّه. ولم تكن هذه الارتدادات، بما فيها العسكرية والأمنية، سوى الانعكاس المباشر وغير المباشر، أيضاً، لتلك الفاتحة، ولم يكن هذا الانعكاس على شعوب العالم وبهذه الصورة التي لم تشهد البشرية مثيلاً لها من قبل.
ما يجري على صعيد الهبّة العالمية الشاملة والعارمة تجاوز بمراحل وأشواط مسألة البعد التعاطفي الإنساني، حتى وإن بقي هذا البعد قائماً ومهماً على كل حال، وذلك لأن حركة شعوب الأرض في دعم حرّية فلسطين واستقلالها قد انتقلت خلال هذه الحرب الإبادية الإجرامية من مرحلة التعاطف الإنساني إلى الوعي السياسي في حراك هذه الشعوب، ثم انتقل الوعي إلى مرحلة أعلى أكبر وأهمّ، وهي مرحلة إدراك الأبعاد والأخطار التي تنطوي عليها هذه الحرب الهمجية من عدوانية وخراب، وتبعات باتت تمثل فيه الصهيونية العالمية بشقّها الإسرائيلي رأس الحربة، وبشقّها «الغربي»، خصوصاً الأميركي، والذي تمثّله الصهيونية المسيحية، وبشقّها الإسلامي والذي باتت تمثّله بعض الأنظمة الممتدّة على طول الإقليم الذي يسمّى الإقليم الإسلامي، بما في ذلك بعض الأنظمة والقطاعات العربية على قلّتها حتى الآن، والمدعومة بالكامل من قبل الإدارة الأميركية «اليمينية»، وبعض الأنوية «الصلبة» من «اليمين» المتطرّف ذي السمات الفاشية في بلدان الغرب.
وبهذا المعنى، فإنّ انتفاضة شعوب الأرض دعماً لفلسطين هي معركة تاريخية ستؤدّي، من بين ما ستؤدّي إليه، إلى تحوّلات جذرية في «الغرب» على المستوى المباشر بالتأثير على الرسميّات السياسية من دول وأحزاب ومنظمات، وعلى المستوى المتوسّط من صعود قيادات جديدة إلى قلب مراكز القرار في هذه البلدان، وعلى هذه المستويات كافة، بما في ذلك في أميركا نفسها.
وفي المديات القريبة بات من المتوقّع في ظل الإصرار الأميركي والإسرائيلي على اجتياح مدينة غزّة، ومناطق وسط القطاع، وفي ظل حالة الصلف الهمجي لأقطاب حكومة نتنياهو، أن تتحوّل هذه الانتفاضة إلى أفعال مباشرة تنقل حركة المقاطعة ضد دولة الاحتلال إلى مستويات جديدة ونوعية، وصولاً إلى إجبار حكومات «الغرب» في أوروبا وفي مراكزها الأخرى في اليابان وكوريا الجنوبية، وفي أستراليا، على اتخاذ إجراءات عقابية قابلة للتحوّل إلى أعباء اقتصادية فوق مستوى قدرة دولة الاحتلال واقتصادها على تحمّلها بسهولة، وإلى انعكاسات نوعية جديدة في مضمون التبعات المترتّبة عليها.
وبهذه المعاني كلّها، فإن الهبّة الشعبية العالمية باتت منخرطة في وضع دولي جديد وعام، تحوّلت فلسطين بموجبه موضوعياً إلى قاطرة للحقبة الراهنة، قاطرة ستسرّع من انهيار المنظومات «الغربية» الأكثر التصاقاً بالتحالف الأميركي الصهيوني، وبالمنظومات التي بدأت تنأى بنفسها تدريجياً، وأحياناً على استحياء.. وتنأى بنفسها عن العار الأخلاقي والسياسي، وحتى القانوني الذي بدأ يترسّخ ليس فقط كقناعات في كل مؤسسات القانون الدولي، وإنّما - وهذا هو الأهمّ - في قناعات متزايدة بصورة متسارعة في ذهن، ولدى شعوب الأرض التوّاقة للانعتاق والتحرّر من الصورة البشعة التي ظهرت عليها النيوليبرالية والشعبويات «اليمينية» التي تنكّرت لمصالح شعوبها، والتحقت بصورة أو بأخرى بالسياسات الأميركية والصهيونية بصورة ذيلية مخزية.
وحتى لو نجح - وهو من الصعوبة أن ينجح - التحالف الأميركي الصهيوني في «إنجاز» اختراق إستراتيجي كبير في غزّة، وهو الاختراق الذي سيكون الأهمّ في مجمل الواقع الإقليمي والدولي.. حتى لو تمّ لهم ذلك فإن حركة شعوب الأرض لن تخبو ولن تتراجع على الإطلاق. بل هناك من يجزم بأن مثل هذا الاختراق لن يحلّ لا لأميركا، ولا لدولة الاحتلال، أي مخرج حقيقي من الأزمات التي تعصف فيهما في ظل ما تغيّر فعلاً في التوازنات الدولية، وما بدأنا نشهده في الآونة الأخيرة من تطورات كما كان عليه الأمر في «مؤتمر شنغهاي»، وما شهدناه، وعلى الهواء مباشرة من استعراض عسكري مخيف للقوات الصينية في رسائل شديدة الوضوح حول بدء الاستعداد الصيني بالانتقال من التنافس الاقتصادي الناعم الذي درجت عليه السياسة الصينية في السنوات الأخيرة نحو أدوار سياسية جديدة، مدعومة بقوة عسكرية باتت لا تقلّ شأناً عن القدرات العسكرية الأميركية، وقد تتحوّل - إن لم نقل أنها تحوّلت بالفعل - إلى مكافئ فعّال لكل القدرات العسكرية «الغربية»، إضافةً إلى الرسائل التي بعثت بها بكين من خلال استعراض الرؤساء الثلاثة للعرض العسكري.
أقصد أن حركة شعوب الأرض الداعمة والمستظلّة بفلسطين هي في حالة تأهُّب واستنفار نابعة من التحوّل التاريخي في هذه الحركة من التعاطف الإنساني إلى الوعي السياسي والاجتماعي، وإلى إدراك وحدة المعركة والمصير.
لهذا نقول لكل من يندب ويبكي ويتباكى، ويلطم في الساحات السياسية والإعلامية، بأن الخلاف والاختلاف على «الفاتحة» الغزّاوية، والتي تحوّلت إلى حرب إبادة همجية وتوحُّشية تستهدف شعبنا في تاريخه، وفي حقوقه، وفي وجوده، أيضاً، نقول لهم: إن علينا أن نختار، وليس أمامنا سوى أن نختار بين الوقوف مع حرب لإبادة شعبنا، تقتيلاً وتصفيةً وتهجيراً، وبين الوقوف مع شعبنا، ومع شعوب الأرض كلّها دفاعاً عن فلسطين، قضيةً وشعباً ووطناً، تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، وكفى التستُّر خلف [الاختلاف والخلاف على «طوفان الأقصى»]، فعلاً أو رؤيةً أو تضحيةً لإخفاء العجز عن رؤية الحقيقة، أو الفشل في التراجع عن نهج تحويل السياسة إلى حرفةٍ لا تمرّ إلّا من خُرم إبرة فصيل أو قيادة أو منظمة، حتى لا نذهب إلى أكثر من ذلك.