أهداف إسرائيل وسيناريو تقويضها

سنية الحسيني
أهداف إسرائيل وسيناريو تقويضها
يبدو التصعيد ضد الفلسطينيين في غزة والضفة متواصلاً دون هوادة من قبل حكومة الاحتلال. ويعكس ذلك التصعيد، خصوصاً إجراءات سلطات الاحتلال الأخيرة في الضفة حقيقة أهداف هذه الحكومة بجلاء. وليس من الصعب تحديد تلك الأهداف، بتقليص الوجود الفلسطيني في غزة، وإحكام السيطرة عليها، وتقطيع أوصال الضفة وإضعاف الفلسطينيين، وإخضاعهم، وحصر وظيفة السلطة الفلسطينية بمهام توجيهية إدارية مدنية محدودة، بعد إضعاف صلاحياتها ومكانتها. تسعى إسرائيل لتعطيل عوامل دعم قيام الدولة الفلسطينية. ولذلك يركز الاحتلال على تشتيت الشعب الفلسطيني ومصادرة أرضه وتقطيع أوصالها وضمها، وإضعاف مكانة وسلطة وقدرة السلطة الفلسطينية، وجعل قرارات اعتراف باقي دول العالم بالدولة الفلسطينية، حبراً على ورق. ويزداد الأمر تعقيداً عندما تتقاطع تلك الإجراءات والسياسات الاسرائيلية في الأراضي المحتلة مع قرارات الولايات المتحدة مؤخراً تجاه الفلسطينيين والسلطة الفلسطينية، الأمر الذي يعكس توافقاً فريداً بين الحكومتين، وإن لم يكن جديداً، لتحقيق أهداف إسرائيل، رغم «بلطجتها» أي عدم واقعيتها وتحديها للمنظومة السياسية والقانونية الدولية. ورغم تصريحات المنظمات الدولية والإقليمية، وغالبية دول العالم الرافضة للسياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ومواقف القوى الدولية المركزية الرافضة لتلك السياسات والإجراءات الإسرائيلية، وعلى رأسها دول غربية بالإضافة إلى روسيا والصين والدول العربية، وتطور تلك المواقف بالتهديد بفرض عقوبات على إسرائيل أو فرضها فعلاً من قبل عدد من تلك الدول، يلوح السؤال: ما مدى إمكانية نجاح غالبية دول العالم، على رأسها قوى عظمى غربية وغير غربية بردع إسرائيل ومن يقف وراءها وحماية الفلسطينيين ومستقبلهم في هذه اللحظات العصيبة؟
تتصاعد القرارات والإجراءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة والضفة، وكذلك السلطة الفلسطينية بشكل غير مسبوق، والذي يعد إعلان حرب شاملة، على شعب أعزل يخضع فعلياً تحت سلطتها، بصفتها القوة القائمة بالاحتلال. وعرض نتنياهو في شهر شباط من العام الماضي، وثيقة مبادئ لليوم التالي للحرب في غزة، لم تتغير ركائزها حتى اليوم، وهي تعكس رؤية لمستقبل غزة. وأهم ما عرضته الوثيقة سيطرة أمنية إسرائيلية مستمرة ومفتوحة زمنياً، ونزع السلاح التام للفصائل في غزة، وتوفير إدارة مدنية محلية، وتشديد السيطرة على الحدود، وهو تماماً ما يجري العمل به في الضفة الغربية، ويمنع تلقائياً قيام دولة فلسطينية مستقلة. ويعد التصعيد الإسرائيلي الأخير في الضفة إعلان حرب على السكان العزل، القابعين فعلياً تحت سيطرتها وحكمها، وقراراً معلناً بتغير واقعهم الحالي، بحرمانهم من حقهم بتقرير المصير، وإخضاعهم بشكل نهائي لرؤية إسرائيل لمستقبلهم السياسي. فقد صادقت اللجنة العليا للتخطيط في الإدارة المدنية لسلطات الاحتلال نهاية الشهر الماضي على مخطط «E1»، الذي يمنع تواصل أراضي الضفة الغربية، وقد اعتبره سموتريتش بأنه «يدفن فكرة الدولة الفلسطينية». وتحدثت تقارير إسرائيلية عن مساع حكومية لاستبدال نفوذ السلطة الفلسطينية في منطقة الخليل بقيادة محلية لعزل الخليل عن سياقها الفلسطيني الحالي، بهدف تفتيت التمثيل الفلسطيني في الضفة، وإضعاف أكبر للسلطة الفلسطينية وشرعيتها، في إطار مخطط أهم يهدف لنزع شرعية السلطة، ومكانتها كممثل للفلسطينيين. ولا تنفصل تلك الاجراءات والمساعي الإسرائيلية عن إلغاء إسرائيل الإعفاء أو الضمان المصرفي قبل ثلاثة أشهر، والذي كان يسمح للبنوك الإسرائيلية بالتعامل مع البنوك الفلسطينية، وهو ما وصفه خبراء اقتصاديون بأنه خطوة تعرّض النظام المصرفي الفلسطيني للشلل وخسائر كبرى، وتُضعف قدرة السلطة على السداد والاقتراض ودفع الرواتب، معتبرين أنها خطوة عالية المخاطر، وتهدد استقرار مالية السلطة، وتفكيك وظائفها. بالإضافة إلى خطورة القرار الحكومي المتعلق بتسجيل أراضي الضفة الغربية في المنطقة «ج» والذي جاء في شهر أيار الماضي، والذي يوسع السيادة الإدارية والمدنية، في تلك المناطق، وبالتالي ضمها. يأتي ذلك كاستكمال لإجراءات بدأتها الحكومة الحالية منذ صعودها. ففي العام ٢٠٢٤، اتخذت الحكومة الإسرائيلية مجموعة من الإجراءات التصعيدية في الضفة الغربية. فقد ناقشت الحكومة المصغرة خطوات لتصعيد الاستيطان، في سياق الرد على تحركات دبلوماسية دولية للاعتراف بالدولة الفلسطينية. وصادقت الحكومة المصغرة أيضاً على شرعنة خمس بؤر استيطانية. كما فرضت عقوبات على مسؤولين في السلطة، واقتطاعاً من أموالها. كما توسعت عمليات جيش الاحتلال التي تراوحت بين الإغارة والاقتحامات والهجوم والاعتقال، خصوصاً في شمال الضفة الغربية، في جنين وطولكرم ونابلس، وإن لم تسلم باقي مناطق الضفة الغربية من ذلك التصعيد. لا يمكن التغاضي عن حقيقة أن حكومة نتنياهو الحالية منذ وصولها للسلطة قد بدأت بإشعال الشرارة الأولى لتلك الحرب، والتي تحولت حالياً، لحرب ضروس مكلفة جداً للفلسطينيين. فقد وقع نتنياهو في ٢٣ شباط لعام ٢٠٢٣ مع وزير «الدفاع» والوزير الجديد في تلك الوزارة بتسلئيل سموتريتش «وثيقة تفاهمات» تُعيد تقسيم الصلاحيات داخل الوزارة، بما يشمل تمكين الوزير الجديد سموتريتش من إدارة ملفات استيطانية ومدنية مركزية في الضفة الغربية عبر «مُديرية الاستيطان» الجديدة. وتعدّ تلك الخطوة توسيعاً لصلاحيات الإدارة المدنية في الضفة الغربية ذات الطابع السياسي، على حساب الطابع العسكري التقليدي للاحتلال، والذي يُعد شكلاً من أشكال الضم، وتجاهلاً لواقع الأراضي الفلسطينية الخاضعة فعلياً للاحتلال العسكري. وفي ذات العام صوّت الكنيست على إلغاء حظر الدخول والمكوث على أجزاء من شمال أراضي الضفة الغربية، الذي فُرض ضمن «خطة الانفصال» في العام ٢٠٠٥، الأمر الذي سمح باستئناف التواجد الإسرائيلي في مناطق أُخليت سابقًا. يُعدّ ذلك التصعيد، خصوصاً ما يحصل خلال الأشهر الأخيرة الماضية، من إعادة توزيع الصلاحيات المدنية، وتسريع التسويات والاعتمادات الاستيطانية لتكييفها قانونياً، والضغط السياسي والمالي على السلطة، وتكثيف القبضة الأمنية على الضفة، تصبّ جميعاً في تثبيت سيطرة إسرائيل الأمنية الدائمة على مجمل أراضي الضفة الغربية، وتقليص قدرة ومكانة السلطة الفلسطينية سياسياً ومالياً وحتى إدارياً، لحصرها في مجالات محددة، بهدف تقويض مسار الدولة الفلسطينية. وقد صرح نتنياهو صراحة، بأن إسرائيل لن تتنازل عن السيطرة الأمنية على الضفة الغربية، وحظي ذلك بدعم من قبل أغلبية أصوات الكنيست في شهر شباط من العام الماضي.
تأتي تلك الإجراءات الإسرائيلية بدعم وتأييد كامل من الولايات المتحدة، الأمر الذي يزيدها زخماً. فقد صعدت واشنطن في الأيام الأخيرة إجراءاتها ضد الفلسطينيين، انسجاماً مع التصعيد الإسرائيلي. يأتي ذلك على الرغم من تزايُد توجّه الرأي العام الأميركي بشكل ملحوظ لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، ورفضه الإجحاف بها. فقد أعلنت الولايات المتحدة قبل يومين تعليق معظم أنواع التأشيرات لحمَلة جواز السفر الفلسطيني، بما يشمل الزيارة والدراسة والعمل وحتى العلاج، الأمر الذي يُعتبر عقوبة جماعية للفلسطينيين، ويبدو وكأنه إعلان حرب على شعب بأكمله يرزح تحت الاحتلال، وخطوة في طريق سحب الاعتراف بالسلطة الفلسطينية أو التهديد بذلك. جاء ذلك الإعلان بعد أيام من قرار الإدارة الأميركية سحب تأشيرات مسؤولي السلطة، قبل أيام من انعقاد جلسة الجمعية العامة، المنوي عقدها خلال الشهر الجاري، لمنع حضورهم جلسة الجمعية العامة، دون تحديد الأسباب، متهمةً السلطة الفلسطينية بالتحريض وتقويض السلام. يأتي ذلك الموقف الأميركي رغم إخلاله بالتزامات الولايات المتحدة مع الأمم المتحدة في إطار اتفاقية المقر لعام ١٩٤٧، التي تلزم السلطات الأميركية بتسهيل وصول وفود الأمم المتحدة، وعدم إخضاع دخولهم للبلاد لقوانين وقرارات الدولة الأميركية. وكانت الولايات المتحدة قد منعت وفد منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات من دخول الولايات المتحدة في العام ١٩٨٨. كما تحدثت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية قبل أيام عن تسريب وثيقة حول خطة وصاية أميركية على غزة لمدة عشر سنوات، ونقل الغريين من وطنهم، وتقديم حوافز مالية لهم، بهدف تحويل غزة لمركز سياحي وصناعي تحت اشراف وإدارة الولايات المتحدة، بالتنسيق مع إسرائيل. ويعد ذلك إعادة لما طرحه ترامب عند وصوله للسلطة، ويتقاطع مع تصريحاته الآنية، رغم عدم إقرارها رسمياً، إلا أن مجرد طرحه من قبل ترامب يعد موقفاً سياسياً أميركياً غير مسبوق، رغم المعارضة الشعبية الواسعة لذلك في الولايات المتحدة، ويكشف عن تجاهل تام للإدارة الحالية لحق الشعب الفلسطيني، وللقوانين وقرارات الشرعية الدولية التي تحمي ذلك الحق، ومتعارضاً مع موقف غالبية دول العالم. تعتبر تلك القرارات الأميركية الأخيرة تصعيداً إضافياً لما بدأته تلك الإدارة منذ استلامها السلطة مطلع العام الجاري.
لم يعد خافياً أن إسرائيل ترفض الانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام ١٩٦٧، وتسعى لضم الأراضي الفلسطينية المحتلة لإسرائيل، وتعمل على السماح بوجود سلطة فلسطينية ضعيفة وظيفياً، لإدارة شؤون الفلسطينيين، بينما تعجز قانونياً عن إرساء شروط وجود الدولة الفلسطينية، أي تعمل إسرائيل على تعميق فكرة وجود سلطة فلسطينية بدون سيادة، الأمر الذي يقوض وجود أحد الركائز القانونية لشروط قيام الدول. فالضغط المالي للسلطة وكذلك السياسي، والذي تجلى بمنع وصول ممثلي السلطة للمشاركة باجتماع الجمعية العامة، يعد تقويضاً دبلوماسياً للسلطة ولمكانتها دولياً، بهدف حجب صوتها عن المحافل الدولية، ومحاولة لإضعاف قانونية تمثيلها، خصوصاً بعد الزخم الذي حصدته القضية الفلسطينية بعد حرب غزة. ويواجه الموقف الإسرائيلي والأميركي بانتقادات أوروبية علنية، ورفض عربي، وتنديد تركي، ومعارضة صينية وروسية وتململ أممي، ما يرفع تكلفة العزلة على إسرائيل، خصوصاً في لحظةٍ تتّجه فيها عواصم غربية نحو اعتراف بالدولة الفلسطينية. وتمتلك تلك الأطراف الدولية، سواء كانت منظمات أو دولاً، أدوات مهمة، كدعم الفلسطينيين والسلطة مادياً وسياسياً وقانونياً، لمواجهة مخططات إسرائيل والولايات المتحدة، والتي من شأنها تعطيل تلك المخططات وتأثيرها، ورفع تكلفتها الاقتصادية والقانونية والسياسية على إسرائيل، وقد تتمكن تلك المساعي بالفعل من منع تهجير الفلسطينيين في غزة، ووقف الحرب، ولكن ذلك يحتاج لعمل دولي جماعي منظم.