نشر بتاريخ: 2025/07/28 ( آخر تحديث: 2025/07/28 الساعة: 17:03 )
د. أحمد رفيق عوض

توظيف المساعدات في الكارثة الإنسانية

نشر بتاريخ: 2025/07/28 (آخر تحديث: 2025/07/28 الساعة: 17:03)

الكوفية المشاهد التي تلحق العار بالمنظومات والشعارات والكيانات جميعاً، حيث أطفال وعجائز يموتون بسبب الجوع فضلاً عن القصف، هي مشاهد مروعة بكل المقاييس، إسرائيل المتنورة الليبرالية الديمقراطية، الممثلة للنور والحضارة والتقدم والعلم والتي تدعي تمثيل اليهودية، تقبل على نفسها أن تقصف شعباً أعزل بالطائرات ثم أن تفرض عليه حصاراً تمنع فيه الدواء والغذاء من التدفق، والأنكى من ذلك أن هناك من يدعم أو يتواطأ أو يسكت أو يتكيف أو يتجاهل أو يتظاهر بالشفقة، كل هؤلاء مسؤولون، كل هؤلاء قد يدفعون الثمن عاجلاً أو آجلاً.

وتحولت المساعدات الإنسانية الواجب إدخالها إلى قطاع غزة إلى معركة حقيقية تدور رحاها في كل أرجاء المعمورة، فإسرائيل تريد من هذه المساعدات أن تكون أداة لتفكيك المجتمع الفلسطيني وتركيزه في أماكن يسهل معها مراقبتهم أو قذفهم خارج الحدود، إسرائيل تريد من هذه المساعدات إضعاف حماس ودفعها إلى الاشتباك مع فئات الجمهور الفلسطيني، وتريد من هذه المساعدات أن تساعدها في أعمالها العسكرية والأمنية من خلال عمليات الإسقاط والاعتقال، وتريد منها الالتفاف على الهيئات الدولية ومواجهة المحاكمات العالمية وتقليل النقد الأممي الذي يحاصرها من كل جانب، إسرائيل تريد من هذه المساعدات أن تكون أداة تجميل من جهة، وأداة دفاع من جهة أخرى، وأداة أمنية من جهة ثالثة، وأداة اجتماعية من جهة رابعة، لهذا أنفقت إسرائيل ملايين الدولارات من أجل إنشاء ما تسمى مؤسسة غزة الإنسانية، لأن ما تحصل عليه من خلال هذه المؤسسة يستحق هذه الملايين، ويبدو أن إسرائيل أقنعت أمريكا بأن تضع على هذه المؤسسة اسمها لتأخذ الطابع الدولي، ويبدو أن أمريكا اقتنعت بأن مؤسسة غزة الإنسانية هي بديل عن كل الهيئات الدولية، ورغم أن كثيراً من الأطراف الدولية الموثوقة رفضت التعامل مع تلك المؤسسة المشؤومة، إلا أن إسرائيل وأمريكا مصرتان على ذلك إصراراً غير مفهوم.

إن احتكار تقديم المساعدات بهذه الطريقة المذلة والمهينة والمشينة، فضلاً عن استشهاد ما يقارب من ألف فلسطيني وجرح عشرة آلاف تقريباً، إلا أن إسرائيل تعتقد أن تقديم المساعدات إنما يحقق لها ما تريد من أمن وصورة ودفاع، إن منع إسرائيل دخول المساعدات وتوزيعها عن طريق الهيئات الدولية، وخصوصاً الأونروا، إنما يعني أن إسرائيل لا تقاتل حماس كما تدعي، بل هي تريد أن تعاقب كل الفلسطينيين باعتبارهم مذنبين جميعاً ولا يرجى صلاحهم أو التعاون معهم اليوم أو غداً، إن قرار إسرائيل تجويع الفلسطينيين بهذا الشكل هو مغامرة حقيقية بالمستقبل كله.

وقريباً من إسرائيل، فإن الأطراف الأُخرى، دون تسمية، حولت المساعدات أيضاً إلى أداة للتربح والاحتكار والضغط والتدخل وإثبات الحضور وتسجيل النقاط والتنافس المكشوف، المساعدات قبل أن تدخل القطاع تواجه الاعتراضات والتناقضات والبيروقراطية، وعندما تدخل القطاع تواجه السرقة والاختطاف والبيع والاحتكار وكل ما يخطر على بالك أيضاً.

تحولت المساعدات التي من المفترض أن تكون إنسانية بالدرجة الأولى إلى أداة ابتزاز كبيرة، الكل يريد أن يسجل من خلالها كل ما يريد من مواقف وأرباح ومواقع، وبدون تسمية أيضاً، فإن هذه المساعدات ومنذ 22 شهراً تقريباً تحولت فعلاً إلى قصة عالمية لا تستحي أطراف بعينها أن تكون الطرف المجرم والشرير فيها، وكل ذلك على حساب طفل غزاوي يجوح من قحف قلبه: أنا جوعان، أو امرأة حامل تسقط على الأرض جوعاً واستسلاماً.

إن من يشاهد ذلك دون أن ينخلع قلبه فإن الإنسانية منه براء.